كانتْ وما زالتْ ظاهرةُ الوفاءِ للمبدعِ بعدَ موتهِ تُشعرُني بالحزنِ والأسى، وكنتُ وما زلتُ أتساءلُ: أين ذلك الوفاء للمبدع الحي؟! ولماذا لا يكون ذلك الوفاء له في حياته؟! وظلَّ ذلك الشعورُ يلازمني، وتلك الأسئلةُ تُلحُّ عليَّ عند سماع أو قراءة أي خبرٍ يُنعى فيه أحد رُوَّادنا حتى قرأتُ خبر نعي د. إحسان عباس عليه رحمة الله فكانت هذه القصيدة:
رَاعَ قَلْبِي مَا رَأَى مِنْ دَهْرِهِ
حين أخفى جَهْرَهُ في سِرِّهِ
وَبَدا مِيْزَانُهُ مُضْطَرباً
مَا عَرَفْنا خَيْرَهُ مِنْ شَرِّهِ
كَمْ بِهِ مِنْ مُبْدِعٍ أَقْلامُهُ
هَطَلَتْ فيْنَا بِسُقْيَا فِكْرِهِ
وَجَرَى الإِبْدَاعُ نَهْراً صَافِياً
مَا أُحَيْلَى شَرْبَةً مِنْ نَهْرِهِ
فَإذَا بِالكَوْنِ يَغْلِي جَسَداً
تَتَلَظَّى نَارُهُ فِي صَدْرِهِ
وَإِذَا بِالدَّهْرِ رِيْحٌ تَحْتَوِي
رَوْضَهُ تَجْتَثُّ أَنْدَى زَهْرِهِ
وَالدُّجَى مَدَّ يَداً تَخْنُقُهُ
وَتُوَارِي صَوْتَهُ فِي صَبْرِهِ
لَمْ يَنَلْ إِلاَّ سَرَاباً إنَّمَا
عَاشَ صَقْراً لَمْ يُنَلْ مِنْ قَدْرِهِ
وَإذَا يَوْماً طَوَاهُ المَوْتُ كَمْ
أَعْيُنٍ فَاضَتْ أَسًى فِي إِثْرِهِ
عَجَباً يَا أيُّهَا المُبْدِعُ مِنْ
دَهْرِنَا بَلْ عَجَباً مِنْ أَمْرِهِ
لَمْ يُفَرِّق حِيْنَ وَافَاهُ السَّنَا
مِنْ تُرَابٍ شَعَّ أَمْ مِنْ تِبْرِهِ؟
وَاسْتَوَى مَنْ رَاحَ يُغْضِي طَرْفَهُ
لَكَ فِي إِكْبَارِهِ أَوْ كِبْرِهِ
أَيُّهَا المُبْدِعُ لا تَيْأَسْ وَإِنْ
نَالَكَ الدَّهْرُ بِدَامِي ظُفْرِهِ
وَاحْتَسِبْ إِبْدَاعَكَ السَّامِي رُؤًى
عِنْدَ مَنْ يُعْطِيكَ أَوْفَى أَجْرِهِ
فَلَكَ اللهُ وَمَنْ لاذَ بِهِ
نَالَ مَا يَرْجُوهُ لَوْ فِي قَبْرِهِ